((( الحلم ))) قصة قصيرة تأليف علية مصطفى خضر

((( الحلم ))) قصة قصيرة تأليف علية مصطفى خضر
**********
كبرت ( سعاد ) وهي تضع نصب عينيها هدف وحيد، وهو الثأر ممن قتل أبويها أمام أعين أخويها دون رحمة ولا شفقة، ودون أن يرف له رمش.
كان لا يشغلها سوى هذا الحلم الانتقام لها، ولأخويها ( أحمد و منتصر) كانت إذا أخذتها الحياة، ومشاغلها في توفير لقمة العيش لمن أصبحت أبا، وأما لهما رغم صغر سنها، وتناست رغما عنها هذا الهدف لفترة من الوقت تعود مجددا بكل قوة للعمل على تحقيق هذا الحلم التي رصدت له كل حياتها بعد تربية أخويها، فقد كرست كل وقتها للعمل، وكان لا يهمها نوعية هذا العمل طالما كان شريفا سواء كان بائعة خضار تجر عربة يد صغيرة تضع عليها بضاعتها أو مشنة تضعها على رأسها تكاد تدق عنقها من ثقلها، فقد عاهدت نفسها على التحمل، وعدم الشكوى أبدا وكانت كلمة أبيها لها تتردد دائما في أذنيها ( أنت بنت بمئة رجل ) وكذلك دعوات أمها لها بالستر . اجتهدت ( سعاد ) لتوفير لقمة العيش، وتعليم ( أحمد و منتصر ) وكذلك انتظمت في التدريب البدني بالساحة الشعبية
وكانت تصر على التدريب الشاق رغم نصيحة مدربها لها بأنها ( أنثى )
وهذا التدريب سيصنع لها عضلات بارزة ويسترد ضاحكا “: لن تتزوجي فلا يوجد رجل يتزوج رجلا مثله ” وكانت تضحك وتصر على تنمية وتقوية عضلاتها، وتمارس التمارين بكل جدية لدرجة أثارت كل من حولها، وكانوا يحسدونها على هذا الجهد والطاقة، فهي نهارا بائعة للخضار، وفي أخر اليوم تتدرب كأنها قادمة على حرب ضروس لن تخرج منها خاسرة.
وهى تبتسم للجميع وتستمر في التدريب بكل حيوية ونشاط، فهم لا يدرون بالنار التي تشتعل داخلها لم يعيشوا ظروفها لم يقتل والديهم أمامهم مثلها
لقد عاشت أيام، وليالي بين النار والرعب ليس فقط على حياتها بل على الأمانة التي تركها والديها لها ( أحمد ومنتصر ) فهي لن تنسى أبدا الدماء المتناثرة على جدران المنزل، والرعب يكسو وجه أخويها الصغار وحشرجة أصواتهما من البكاء بل الانهيار، ولم يكن بيدها شيئا تفعله لهما إن ذاك فقد قيدوها في عمود السرير النحاسي بكل قسوة حتى يفرغوا من استجواب الأب والأم، ثم يتفرغوا لها، ولكن أبويها أصرا على الانكار، فهما رغم الفقر، وعيشة الذل في هذا المنزل المحاصر لم يغادرا (بورسعيد) المدينة الباسلة، وأصرا على البقاء رغم هجرة الكثير من السكان إلى ( دمياط ــ المنزلة ) ولكنهما رفضا الخروج من أرض الأجداد
وطلبا من ( سعاد ) أن تأخذ الصغيرين، وتذهب مع خالتها، وأولاد عمها إلى ( دمياط ) وتتركهما لمصيرهما لكنها أبت أن تتركهما، وكذلك تشبث بهما الصغار ورفضا التحرك مع الأقارب لدمياط فما كان من الخالة، وأولاد العم إلا المغادرة لدمياط، وتركوهم لمصيرهم المجهول .
وظلوا بهذا المنزل الصغير الفقير البعيد عن الأعين لفترة ليست وجيزة
كان الأب رغم فقره مجتهدا يذهب ليجلب لهم بعض الطعام الذي يستطيع أن يتحصل عليه لسد الرمق فقط لا غير.
وكانوا جميعا راضين حامدين شاكرين للرب لا يتذمروا أبدا بل يصلون وتلهج السنتهم بالشكر لله الذي أطعمهم وأسقاهم وسترهم عن أعين العدو
الذي انتشر في شوارع ( بورسعيد )
إلى أن دق بابهم أحد جنود الأعداء متهما اياهم بإخفاء الفدائيين، وأخذ يجوب المنزل بحثا عن الفدائيين لكنه لم يجد أحدا، ووجد بيتا حقيرا لا تتوفر به أبسط شؤون الحياة، فسخر منهم بعجرفة، وحذرهم من إيواء الفدائيين وإلا دمر البيت على رؤوس من فيه، وانصرف .
ولمعت الفكرة في ذهن الأب (وليه لأ) ؟ كيف تاهت هذه الفكرة عنه !
لماذا لا يساعد من يدافع عن الوطن، ويحميه؟ هل هو أقل وطنية منهم؟
وشاور الزوجة التي خافت في البداية ثم قالت :” العمر واحد والرب واحد على بركة الله ، واستردت قائلة : على الأقل يبقى عملنا شيء نؤجر عليه، ويدخلنا الجنة “
وفعلا تسلل الأب إلى أماكن تجمع الفدائيين، وبعد تفتيش دقيق منهم، واستجواب، وسين ، وجيم، وتمحيص، وتدقيق .
قالوا له :” أنت رجل طاعن في السن فما هي المساعدة التي تستطيع تقديمها لنا “
رد الأب:” نطهو الطعام لكم نحمل الماء لكم يختبأ من تخافون عليه لدينا، فنحن نسكن مكان بعيد في منزل قديم حقير وسط بيوت متهدمة خالية من السكان لن يشك فينا أحد “
وتحول المنزل لخلية نحل ( طبخ ـــ غسيل ــ نوم )
إلى أن مرت بالحي دورية تبحث عن الفدائيين بين البيوت المتهدمة واقتحمت المنزل، ووجدت كمية كبيرة من الأطعمة المعدة كذلك ملابس كثيرة لا تخص أهل المنزل، فقاموا باستجواب الأب، والأم، ولما يأسوا منهما ولم يجدوا أية أجوبة وضعوهما بجوار الحائط، وأطلقوا عليهما النار و أردياهما قتيلين في الحال وسط صراخ الصغيرين ورعبهما.
فقد أمسك بهما أحد الجنود بكل قسوة وعنف بينما قيدت الأبنة بعمود السرير النحاسي حتى ينتهوا من الأبوين ثم يتم استجواب الأبنة .
لكن حدث مالم يكن بالحسبان انهار المنزل على من فيه جنود وسكان فقد دكته إحدى طائرات العدو التي لا تعلم أن جنودها به.
أفاقت ( سعاد ) واستردت وعيها، ولم تدرك للوهلة الأولى أين هي؟؟
أفي الدنيا أم الأخرة ؟ صرخت سعاد بكل قوتها يا الله أين أنا ؟؟
فردت عليها إحدى الممرضات :” لا تخافي بنيتي أنت بالمشفى بدمياط”
صاحت ( سعاد ) ماذا ؟ أين أنا ؟ دمياط!! ونهضت من سريرها محاولة الوقوف فمنعتها الممرضة، وطلبت منها البقاء بسريرها حتى لا تتأذى “
بكت ( سعاد ) وهي تسأل عن أخويها ( أحمد ومنتصر ) أين هما ؟؟
هل ماتا ؟؟ أم ما زالا أحياء ثم استردت متوسلة للممرضة بربك أخبريني
أين أخوتي؟؟
ردت الممرضة:” لا علم لي لكن سوف أبحث، وأسأل، وأخبرك إذا وجدت شيئا “
ظلت سعاد تبكي وتنتحب إلى أن جاءت الممرضة بعد فترة ليست وجيزة، وأخبرتها :” أن ( أحمد ومنتصر ) أحياء يرزقون “
صاحت سعاد :” أين هما إذن ؟؟ أخبرتها الممرضة عند الطبيب ( أحمد ) فقد أخذهما لديه حتى يستدل لهما على أهل “
شكرت ( سعاد ) ربها، وطلبت أن ترى أخويها، وحضرا لها، واحتضنتهما، وأخذت تبكي، و تربت على أكتافهما، ثم وعدتهما بالانتقام والثأر لهما، وظل الولدين لدى الطبيب ( أحمد ) حتى خرجت من المشفى
وطلب منها الطبيب أن تلحق بهما للإقامة مع زوجته، وأولاده حتى تستطيع تدبير أمرها لكنها رفضت شاكرة له صنيعه وطلبت منه استمرار استضافة الولدين حتى تستطيع تدبير مكان وعمل تقتات منه، ووافق الطبيب، وانصرفت تبحث عن عمل إلى أن انتهى بها الأمر للعمل كبائعة للخضار، واستأجرت حجرة صغيرة بأحد الأحياء الشعبية البسيطة، واستقرت لها الأمور فأحضرت أخويها وشكرت الطبيب .
وأصرت على استكمال أخويها لتعليمهما، والعمل بإصرار للإنفاق عليهما
وكذلك الاستمرار في التدريب البدني.
إلى أن سمعت عن حرب الاستنزاف، فقررت العودة إلى إحدى مدن القناة للمساهمة حتى ولو ( بشق تمرة ) كما قال رسولنا الكريم صل الله عليه وسلم، وحاولت بكل طاقة العودة لكنها لم تفلح إلا بمساعدة الطبيب أحمد من كان يأوي أخويها في بداية التهجير، وساعدها، وألحقها كممرضة بالمشفى بالإسماعيلية .
ظل الولدان بدمياط حتى إكمال تعليمهما، ثم أصرا على الالتحاق بالجيش
رغم صدور إعفاء لهما لوفاة الوالد ولظروف التهجير لكنهما رفضا، وتقدما بالتماس حتى يتم الالتحاق بالجيش، وتمت الموافقة لهما .
واشتركا في حرب أكتوبر 1973، ومات ( منتصر ) شهيدا وأصيب
( أحمد ) وتم حمله للمشفى بالإسماعيلية حيث تعمل ( سعاد ) التي كانت تمرضه وتحثه على العودة السريعة للانتقام والثأر لوالديه، وأخيه
ولكل مصر، واستشهد ( أحمد ) أيضا بعد رفع علم مصر على ساري الشرف والكرامة والعزة .
و في ذكرى السادس من أكتوبر تكرم قواتنا المسلحة المصرية السيدة ( الأم والأخت ) التي قدمت ولديها فداء لمصر ولشعب مصر فتحية لها ولكل أم مصرية.