تحقيقات

لواء دكتور سمير فرج يكتب الصين ورسالة الردع

الصين ورسالة الردع

لواء دكتور/ سمير فرج

احتفلت الصين بمرور 80 عامًا على انتصار البلاد في الحرب العالمية الثانية. وجاء الاحتفال بصورة عرض عسكري مبهر لفت أنظار العالم، خاصة مع ظهور “الثلاثي النووي” لأول مرة. وكان الملفت في هذا الاحتفال الحضور السياسي البارز، حيث حضر الرئيس الصيني “شي جين بينغ”، والرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، والرئيس الكوري الشمالي “كيم جونغ أون”، وذلك ضمن 26 زعيمًا من أنحاء العالم، كما كان هناك حضور ملفت للرئيس الإيراني “مسعود كيان”.


جاء العرض العسكري المخيف ليؤكد، كما أجمع كل المحللين العسكريين والاستراتيجيين في العالم، أنه كان رسالة ردع مباشرة من الصين إلى القوى العسكرية الأخرى في العالم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت أولى مفاجآت العرض العسكري الصيني أنه تضمن للمرة الأولى عرض “الثلاثي النووي الصيني”. ويقصد بالأسلحة النووية الثلاثية الوسائل البرية والبحرية والجوية، وهي الطرق الرئيسية لإطلاق الأسلحة النووية.

فقد عرضت الصين ضمن النظام النووي البري صواريخ الـ ICBMs (Intercontinental Ballistic Missiles) وهي صواريخ أرض – أرض بعيدة المدى محملة على قواعد متحركة، تحقق إمكانية تنفيذ ضربة نووية استراتيجية مباشرة ضد الخصم. أما النوع الثاني من القوة النووية، فهو القوة النووية البحرية والمتمثلة في صواريخ الـ SLBMs (Submarine-Launched Ballistic Missiles) التي تطلق من الغواصات النووية، والتي تحقق الرد المباشر ضد أي هجوم على الصين. وتكمن ميزتها في أن هذه الغواصات تظل مختفية تحت الماء لفترات طويلة، وبالتالي لا يمكن للعدو اكتشاف مكانها، وعند خروجها المفاجئ للسطح وإطلاق الصواريخ، تكون الضربة صادمة تمامًا للخصم.

أما النوع الثالث من القوة النووية الثلاثية فهو القوة النووية الجوية، حيث عرضت الصين صواريخ الـ ALBMs (Air-Launched Ballistic Missiles)، وهي صواريخ تطلق من القاذفات النووية الاستراتيجية أو قنابل نووية محملة على متن هذه القاذفات، ما يمنح الصين اليد العليا في توجيه الضربات الجوية.

وطبقًا للتحليلات التي أجرتها مراكز الأبحاث العسكرية والاستراتيجية، فقد تم إجراء مقارنات بين “الثلاثي النووي” لكل من الولايات المتحدة وروسيا والصين. وأكدت هذه المراكز أن الثلاثي النووي الأمريكي يتميز بدرجة عالية من الدقة لكنه يعتمد على تقنيات قديمة، وخاصة في الصواريخ البرية النووية. أما الثلاثي النووي الروسي فهو الأكثر تنوعًا، خصوصًا في مجال الصواريخ البرية الثقيلة. بينما الثلاثي النووي الصيني – وهو الوافد الجديد – فقد دخل إلى هذا المجال بقوة وكانت مفاجأة للجميع.

ومن هنا يطرح السؤال: هل كان العرض العسكري الصيني مجرد مناسبة وطنية للاحتفال بذكرى الانتصار في الحرب العالمية الثانية؟ أم كان إعلانًا بأن النظام العالمي القديم الأحادي القطب قد انتهى، وأن نظامًا جديدًا ثنائي الأقطاب قد بدأ مع يوم هذا العرض العسكري؟

وطبقًا لتقرير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام (SIPRI) لعام 2024، فقد خصصت الصين أكثر من 224 مليار دولار لميزانيتها العسكرية. أما روسيا، ورغم الصعوبات التي تواجهها في حربها ضد أوكرانيا والعقوبات المفروضة عليها، فقد أنفقت حوالي 109 مليار دولار. في حين تمتلك كوريا الشمالية 1.2 مليون جندي بالإضافة إلى ترسانة صاروخية متقدمة.

لذلك فإن القوة الاقتصادية المتصاعدة بسرعة في الصين، والخبرة العسكرية الروسية، والقدرات الصاروخية الكورية الشمالية، يؤكد أن زمن القطب الواحد قد انتهى، وأن الولايات المتحدة لم تعد اللاعب الأوحد المنفرد في الساحة الدولية.

وبعيدًا عن الأسلحة، فقد شهد الاحتفال جانبًا آخر لفت الانتباه. فقد التقطت الميكروفونات المفتوحة قبل بدء العرض العسكري حوارًا جانبيًا بين الرئيس الصيني “شي جين بينغ” ونظيره الروسي “فلاديمير بوتين” حول مستقبل تكنولوجيا زراعة الأعضاء البشرية. قال الرئيس الصيني: ” في الماضي كان من النادر أن يتخطى المرء السبعين من عمره، لكن هذه الأيام فإن الرجل في السبعين لا يزال كأنه طفل”. وسأل الرئيس بوتين: ” مع تطور التكنولوجيا ماذا حدث؟”، ورد الرئيس الصيني : “أصبحنا قادرين على زراعة الأعضاء البشرية باستمرار، بحيث يمكن للإنسان أن يزداد شبابًا مع تقدمه في السن”.

وقد أثارت هذه المناقشة العديد من التعليقات، خاصة وأن الصين أصبحت بالفعل من أكثر الدول تقدمًا في مجال عمليات نقل وزراعة الأعضاء البشرية.

وعمومًا، فإن معظم التقديرات الصادرة من المفكرين ومراكز الأبحاث الاستراتيجية تؤكد أن الصين تعمل من الآن لكي تصبح القوة الاقتصادية رقم واحد في العالم مع حلول عام 2030. ومن خلال ما قدمته الصين في العرض العسكري الأخير، يبدو أنها تخطط أيضًا لأن تصبح القوة العسكرية الأولى على مشارف عام 2030، وهو ما يقلق الغرب، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية.

ويزداد هذا القلق مع التحالفات الاقتصادية الجديدة التي تقودها الصين من خلال منظمة “بريكس” وقمة “شنغهاي”، حيث تعمل القوى الكبرى مثل الصين وروسيا والهند على خلق نظام دولي جديد يلغي نظام القطب الواحد، وينهي هيمنة الدولار على النظام الاقتصادي العالمي. فقد تبنى الجميع الآن فكرة السوق الحرة، في الصين، والهند، والبرازيل، وروسيا، وجنوب أفريقيا، ومعهم دول أخرى، بهدف خلق نظام اقتصادي عالمي جديد.

وهذا يؤكد أن العرض العسكري الصيني لم يكن مجرد. احتفال؟ تقليدي، وإنما كان. إعلان لظهور نظام عالمي جديد ينهي فكرة القطب الواحد. للولايات المتحدة.

وفي النهاية، فإن الأيام القادمة وحدها هي التي ستكشف إن كان عام 2030 سيكون بالفعل بداية نظام عالمي ثنائي الأقطاب، أم أن التوازنات الدولية ستفرز مشهدًا أكثر تعقيدًا.

Email: [email protected]

اظهر المزيد